الأربعاء، 25 سبتمبر 2013

فلاح كان فايت بيغنى .. من جنب السور ....

-
شأنى شأن كثير من أهل البندر .. أصولى ريفية وأهلى فلاحين ولكن لم يكونوا من ذوى الاملاك .. واغلبيتهم فلاحين بسطاء منهم من يمتلك قطعة ارض مساحتها نصف فدان ومنهم من يمتلك اقل ومنهم من يستأجر الارض ليفلحها ومنهم من يعمل باليومية او كما يقولون (على دراعه ) واكثرهم تملكا كان يمتلك فدانين او ثلاثة وعدد يعد على اصابع اليد الواحدة يمتلك فى حدود الخمسة افدنة او اكثر قليلا ..
وكنت اقضى اجازة الصيف كاملة فى الريف بين اهلى واقاربى بحكم اننا (كمغتربين عن اهلنا فى المدينة ) تكون لنا حجرة فى بيت العائلة تغلق عند بدأ الدراسة وتفتح عندما تنتهى الدراسة لنقضى اجازتنا فيها ( لم أكن اعرف بعد المصايف او خلاف ذلك ككل ابناء محدودى الدخل فى مصر ) ومع ذلك كنت انتظر انتهاء الدراسة بفارغ الصبر ليأخذنا ابى بالقطار من امبابة الى المحمودية بحيرة ليضعنا هناك طوال فترة الاجازة نأكل ونشرب عند الاهل فنوفر له عناء المصاريف ( ويبدو ايضا انه كان ينتهزها فرصة لتحقيق قدر من الحرية والهدوء خلا الشهور الثلاثة سنويا بعيدا عن صخبنا وهمنا اليومى ) ..
وهذا ماجعلنى اتعرض عن قرب لحياة الفلاح المصرى واعرفه اكثر من أصدقائى فى المدينة الذين كانوا يرون فيه كائنا ساذجا يفغر فاه طوال الوقت .. وعندما تحدثه لايخرج حديثه عن كلمة (هيه )او (ايوه )او (يانهار ابيض ) او (هم يا ولا )وخلافه من تلك الصورة النمطية للفلاح التى تعرضها موجات الراديو عبر المسلسلات والصور الغنائية او حتى رسائل برنامج همسة عتاب الشهير فى اواخر الستينيات الى اواسط السبعينيات .. وكذا مسلسلات التلفزيون المصرى وافلام السينما العربية (عدا اسثناءات لاتكاد ان تذكر من التناول الجاد )
لذلك كنت اندهش جدا وانا اسمع المطربة الشهيرة شريفه فاضل وهى تتحدث عن فلاح اخر غير الذى اعرفه ( فلاح كان فايت بيغنى .. من جنب السور .. شافنى وان باجمع كام ورده .. من جنب السور .. قطع الموال .. وضحكلى وقال .. ياصباح الخير ياهل البندر .. ياصباح النور ...).الخ .. الى ان تصل الى الكوبليه الذى تسأل فيه الكورس (ياهل البندر .. حدش شاف جدع اسمر دمه خفيف ؟) ..
مازالت الاغنية تتردد فى ذهنى حتى اليوم كنموذج للفهم الخاطئ لمثقفى اهل البندر للفلاح المصرى .. ولازلت اردد فى نفسى .. ( ايوه ياست شريفه .. شفناه .. بس مش جدع اسمر دمه خفيف ... انه شفته ياشريفه هانم جدع اصفر وشه مايل للزرقه وملامحه بتقول انه استوى من البلهارسيا ودخل على مرحلة تمكن فيرس الكبد الوبائى ( اغلب فلاحى منطقة الدلتا على الخصوص يعانون من انتشار فيروس الكبد الوبائى نتيجة البلهارسيا التى تسللت اليهم اثناء عملية الرى والصرف , وأيضا نتيجة اسلوب الحياة المرتبط بالخلل والشح فى خدمات مياه الشرب والصرف الصحى وعدم توفر الرعاية الصحية فى الريف وسوء توزيع الخمات المزمن فى مصر واللا مساوة التى تتم فى هذا المضمار لصالح العاصمة والمدن الكبيرة ) ..
ارتبطت منذ صغرى بالفلاحين وتعلقت بهم واخذت البلهارسيا شأنى شأن اى فلاح ولكن لحسن الحظ تعالجت منها سريعا ولم تدخل جسدى مرة اخرى .. اكلت أكلهم ( المش والمخلل وخضروات الارض احيانا واحيانا اخرى البط والدجاج وخيرات الريف عندما كان الفلاح المصرى حتى اواسط السبعينيات يستطيع ان ينتج اغلب غذائه ) واستقر بى المطاف لأقيم نهائيا فى مدينة المحمودية الريفية فى منتصف السبعينيات ولأعمل ايضا بعد انتهاء دراستى هناك بين أهلى وأقاربى وأترابى من اصدقاء الطفولة والصبا .. ولم ينقطع تواصلى الانسانى بهم .. رغم مشاغلى واقامتى بالمدينة .. المهم اننى ادركت جيدا مدى احباطهم وانصرافهم عن اهل البندر ..وعميق فقدان الثقة التى يكنون تجاه هؤلاء الأفندية من اهل البنادر ( والغريب انهم لايبدون هذه المشاعر ولا يصلون بها الى درجة اعلان النوايا ) . فنحن افندية البندر منا من كان مهندس الرى الذى دوخهم وامر ونهى وتحكم فى مفاتيح ترع الرى .. وكان منا مدير الجمعية الزراعية الذى عامل المزارع البسيط بتعال يصل الى درجة الاستهانة .. ومنا كان مهندس الارشاد وطبيب الوحدة البيطرية وتومارجيه الذى يشخط وينطر ويقبض ايضا ليمشى الحال .. ومنا من كان امين مخازن الجمعية الذى يقوم بتوصيل السماد للاحباب من كبار الملاك ويعامل اصحاب الحيازات الصغيرة باستهانة ويستبيح جزء من نصيبهم فى السماد او المبيدات مستغلا عدم درايته بالقراءة والكتابة او قلة حيلته .. ليبنى بعد ذلك العمارات والبيوت وتظهر عليه مع مرور الوقت امارات النعمة ... انكوى الريف المصرى وخصوصا فلاحيه الفقراء من سرقات واختلاسات البعض من سكان البندر الافندية وطلباتهم الغير مبررة سواء فى اوخر الستينيات او السبعينيات والثمانينيات .. وحتى الان مع ظهور اجيال متعلمة بين فقراء اهل الريف الا ان ظاهرة استغفال بعض الافندية أهل البندر للفلاحين الفقراء والملاك الزرعيين الصغار مازالت عالقة فى الازهان .. مازالت صورة السياسى لدى الفلاح هى صورة الافندى الذى يأت فى الانتخابات ليرفع الشعارات ويغنى على الفلاح بالحديث عن مشاكله وضرورة حلها ثم يأخذ اصوات القرية ويذهب الى البرلمان ويختفى ...الى ان تأتى الانخابات التالية .. مازالت ذاكرتى مليئة بصور استخفاف الافندية اهل البندر المتثاقفين بأهل الريف .. حتى عندما كنا نذهب بأحدنا الى الطبيب فى المدينة الكبرى كان يعاقب الفلاح المريض على مايسميه هو اهماله فى صحته بطريقة مهينة دونما تفهم ان الفلاح لايذهب الى الطبيب الا عندما ينام فى الفراش ويعجز عن الحركة تماما .. لقلة ذات اليد .. وربما لتكاثر الامراض على جسده المتعب من جراء سوء الخدمات الصحية فى القرية وسوء التغذية وقلة الحيلة .. فالمحاصيل لاتتكفل بسداد ديونه لدى البنك .. وأعلاف الماشية مرتفعة الاسعار .. والسماد والمبيدات وسائر مستلزمات الانتاج الزراعى اصبحت غير متوفرة وان توفرت فهى مرتفعة الثمن .. اعرف بعض المستأجرين .. يبقون فى ارض المالك ويدفعون الايجار بالدين .. لأنهم لن يجدوا مأوى ولا عمل خارج هذه الارض التى اصبحت لاتنتج محصولا مربحا فى ظل تحايل التجار وغل يد الدولة عن تسويق المحاصيل ... ربما اقتنع هؤلاء الافندية بما تغنى به عبد الوهاب ( محلاها عيشة الفلاح .. متهنى ومرتاح البال ) ولكن تظل صورة الفلاح الحقيقية مختلفة تماما عن صورته الموجودة فى أزهان أهل البندر المتثاقفين .. وتظل صورة الأفندى ابن البندر لدى الفلاح هى صورة الذى اذا تحدث كذب واذا وعد أخلف واذا اؤتمن خان .. وهذه ثقافة تكونت عند الفلاح منذ ان كان يسمع الافندى عضو الاتحاد الاشتراكى فى الستينيات وهو يردد الشعارات الاشتراكية بطريقة مدرسية (طبعا هناك اسثناءات مخلصة لكنها لم تؤثر للأسف ) للأسف بعضهم كان يشارك فى سرقة ونهب الفلاحين ..سواء فى الجمعيات الزراعية او فى بنك التسليف وجاء افندية الحزب الوطنى ليكملوا حلقة المرار الذى ذاقه هذا الفلاح المسكين على يد افندية البندر ... وفضلا عن تدهور اوضاع الريف المصرى اصبح الفلاح المصرى عبارة عن سبوبة سياسية لهؤلاء البهاوات .. كل ذلك يجرى على انغام اغنى كثيرة كأغنية (الست) شريفه فاضل ( فلاح كان فايت بيغنى ) وعبد الوهاب (محلاها عيشة الفلاح ) واغانى اخرى كانت تقدم الفلاح كأنسان ساذج وعبيط ( ياحضرة العمده .. ابنك حميده حدفنى بالسفنديه .. اهيه .. واغنية الثلاثى المرح الشهيرة (مسعود ) والذى يرد فيها الفلاح الساذج (ايوه ) ناهيك عن افلام السبعينيات والثمانينيات الكوميدية التى قدمها عادل امام .. واحمد بدير .. وسيف الله مختار ... وهى نماذج توضح مدى سخرية الافندية من الفلاح المصرى وتقديمه اياه بهذه الطريقة المهينة ... طبعا هناك اعمال جادة وخصوصا عمل العملاق محمود المليجى فى رائعة الارض ليوسف شاهين ولكن للاسف كانت العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة التى هى اقل القليل ...
عرفتم لماذا يفشل السياسيون والمثقفون فى الريف ويتفوق اصحاب العمامات واللحى من ابناء تلك القرى ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق