الجمعة، 15 نوفمبر 2013

خمسة ملاحظات حول مسألة وحدة اليسار

كثيرا ماتقترن كلمة ((اليسار )) فى كتابات النخب والمثقفين هذه الأيام بمرادفات تحمل دلالات مثل ( الأزمة - الضعف - الأنقسام والتشتت ) وخلافه من دلالات تعبيرية تعنى فى النهاية أن اليسار فى حالة أزمة ..  

وكما صاح أرشميدس صيحته المشهورة عندما أكتشف قانون الطفو  (( وجدتها )) يصيح العديدون اليوم من أهل اليسار وخاصة أولئك الشباب الذين يأملون فى استعادة فاعلية اليسار وحيويته ودوره القيادى بعد أن أظهرت الميادين والشوارع فى 25 يناير و 30 يونيو الحاجة الى دور فعال وقيادى لليسار المصرى  - الذى ربما لو كان حاله كذلك فى لحظة 25 يناير تحديدا لكان قد تغير وجه مصر والمنطقة الشرقية من العالم على الأقل بشكل جذرى ... 

يصيح لسان حال هؤلاء الشباب المخلص (( وجدناها )) وهم يتحدثون عن الوحدة باعتبارها الحل السحرى لأزمة اليسار المصرى ..  

ولاخلاف على الأهمية الأستراتيجية - بل والوجودية -  لمسألة الوحدة  ولكن هناك ملاحظات - خمسة على الأقل - على حالة المنادة بالوحدة والالحاح عليها هذه الأيام

 أولا : ان مايتردد الان حول المنادة والدعوة الى يسار موحد ينبع من نوايا حسنة وهى دعوة يطرحها المخلصين من أبناء اليسار بحماس وأخلاص شديدين , ورغبة أكيدة وصادقة ولكن هذا لايكفى ( وربما كان هذا فى حد ذاته اشكالية كبرى ) لأن ذلك الحماس والأخلاص الهائلين لن يبرران خطورة ماقد ينجم عن اندفاع شديد نحو انجاز وحدة ما (لم يحدد شكلها بعد )  بالقفز فوق الشروط الموضوعية والواقعية اللازمة لتحقق أى وحدة على أرض الواقع ومنها على سبيل المثال لا الحصر :

 1- تحديد أوجه الأتفاق الفكرى والسياسى والتنظيمى  والممارسات على الارض فيما يتعلق بأداوت النضال المختلفة والمتنوعة  بين كيانات اليسار المختلفة وكذلك تحديد أوجه الخلاف على هذه الأصعدة ذاتها للوقوف على المنطلقات وكذلك الامكانيات الحقيقية لأى وحدة منشودة وطبيعة هذه الوحدة وماهو مؤهل لها من كيانات وماهو غير مؤهل لذلك الان .. 

 2- بذل الجهد النقاشى اللازم المتعمق حول الوحدة وطبيعتها والاشكال المناسبة لتحققها كعملية لاتنجز بآلية الأعلان الوثائقى وبالقرارات الفوقية للكيانات الداخلة فيها بقدر ماهى عملية تصاعدية تبدأ بأختبار النوايا والأفكار على أرض الواقع عبر أداء تراكمى من النقاش والنضال المشترك - فى ان واحد - وترجمة ذلك فى خطوات بنائية على أسس مايتم كسبه وأختباره من القناعات وكذا تولد الثقة الرفاقية  بضرورة وشكل كل خطوة بنائية فى أسس وجدران هذه الوحدة على أرض الواقع 

3- استخلاص كل دروس كل محاولات الوحدة التى سرعان مافشلت فى فترات تاريخية سابقة والوقوف المشترك من كل الكيانات الراغبة فى الوحدة على أسباب الأنقسامات التى تضرب الحركة اليسارية المصرية دائما عبر تاريخها واسباب انهيار محاولات التوحد ومايمكن الوصول اليه من استراتيجية للقضاء على مرض ثنائية الوحدة والانقسام ..

ثانيا : أن موضوع الوحدة لايجب أن يناقش كبديل علاجى عن مناقشات جادة لأزمة اليسار المصرى ومايتوجب انتهاجه من استراتيجيات لعلاج تلك الأزمة حتى لاتتحول مسألة الوحدة فى حد ذاتها الى عامل لتفاقم الأزمة بدلا من حلها .. لأن الحقيقة الموضوعية تقول ان انقسام وتشتت اليسار هو أحد أعراض أزمته وهو نتيجة لاسبب وان الأزمة الحقيقية هى ليست فى تفرق وتعدد وتنوع تنظيمات اليسار المصرى بقدر ماهى أزمة تتمثل أسبابها الحقيقية فى تقلص وضعف وهامشية اليسار كله ليس كنتيجة لأنهيار الأتحاد السوفيتى - كما سيسرع البعض ويجيب بذلك - وانما قبل ذلك بالترابط مع انحسار وجوده الفعلى بين جماهيره الحقيقية على ارض الواقع .. وابتعاد اغلب كياناته عن العمل النضالى الحقيقى ( التحتى ) بين جماهير الطبقات الشعبية التى نزعم تاريخيا التعبير عنها ( ربما تكمن المشكلة فى كلمة التعبير عنها .. اذ كان من الافضل التعبير بها وعنها فى نفس الوقت ) .. تركت الكيانات الرئيسية لليسار المصرى ميدان النضال الطبقى وانشغلت تماما بساحة العمل السياسى النخبوى الطابع منذ ستينيات القرن الماضى وارتضت  أغلبها بالانضواء  فى تنظيمات الدولة مراهنة على البرجوازية الصغيرة فى القيادة ثم كررت نفس الخطأ فى مطلع الثمانينيات عندما تركت الرهان على جماهيرها الحقيقية وأستبدلته بالرهان على (( التناقض المتداخل )) فى سلطة مبارك طالما أن (( أسقف العمل السياسى قد أنخفضت )) ... 

ربما أيضا كانت المشكلة تكمن فى ان اليسار المصرى لوقت كبير منذ بداياته لم ينطلق من رؤية مصرية تخص الواقع المصرى شديد التعقيد بالقدر الذى يجعل من خطاب اليسار الكلاسيكى خطابا نظريا عاما يفتقد لمفاتيح وأسرار المسألة المصرية كتحد بدت محاولات التعامل معه - لصياغة خطاب يسارى يخص الواقع المصرى - بدت محدودة ومخنوقة بفعل هجوم اساطين اليسار الرسمى الأصولى المرتبط بمرض الأقتناء الفكرى للنصوص والأدبيات الكلاسيكية دونما بذل الجهد لاختبارها فى الواقع العملى المصرى وبناء الحل ( المصرى ) لتناحرات المجتمع ( المصرى ) 

ثالثا : ان معظم الدعوات التى تلح على الوحدة يعيبها عدم التحديد .. اذ أنها لاتجيب على السؤال أى توحد نريد ؟ وأى شكل للوحدة نطرح ؟  ومع من سيتوحد من ؟ وهناك أمثلة لما يجيبنا عنه الواقع الموضوعى وتجيبنا عنه تناقضات تلك الدعوات  :  

1- هناك وحدة اندماجية تكون بين كيانات فى كيان جديد يعبر عن الصياغة الفكرية والسياسية والتنظيمية لهذه الوحة , وهناك طريقة أخرى (طرحها البعض فعلا داخل حزب التجمع ) أن تتفق كل هذه الكيانات على الأنضمام لكيان  من بينها ( التجمع تحديدا ) تحت دعوى انه يمتلك ظروفا وامكانات مادية وقانونية تؤهله لذلك (( وبغض النظر عن اختلاف وتنوع المرجعيات المؤسسة له ولتتطورات التى طرأت على خطابه السياسى منذ الثمانيات )) وطبعا فان هذا الأنضمام سيعنى بالضرورة استقالة كل أعضاء الكيانات الاخرى لكى يتيسر الانضمام الجماعى الى (التجمع ) .. وقد يطرح التحالف الشعبى الأمر بطريقة ولما لايكون هذا الكيان هو التحالف ؟ فهو يملك وضعا قانونيا مماثلا للتجمع .. 

2- الدعوات للوحدة تقفز فى دعوتها للوحدة على اعتبار لايمكن تجاهله وهو ان بعض الكيانات المستهدفة لهذه الوحدة تعانى من اشكاليات مرجعية كالتجمع والتحالف الشعبى وان دخولها فى أى وحدة ( اندماجية ) سينقل هذه الاشكاليات المرجعية الى الكيان الموحد (الذى هو اليسار الموحد )  

3- لحالة الأنقسام الحالية مخاطرها بالتأكيد ولكن مخاطر الوحدة دون الأجابة على أسئلتها ستقود فى النهاية الى مخاطر وجودية بالنسبة للكيانات التى ستشارك فى هذه الوحدة قافزة على شروطها الموضوعية ..

 الملاحظة الرابعة : انه باستعراض ما طرح عمليا حتى الان من أفكار اجرائية نحو الوحدة نجد ان قسما هاما منها يدور حول خيار ان يكون حزب التجمع هو محور تحقق هذه الوحدة باعتباره ( لست انا الذى أعتبر ذلك ) أكبر الاحزاب اليسارية وأقواها وبغض النظر عن حقيقة ذلك فأن التصورات  الموجودة  داخل أروقة حزب التجمع - لفكرة اليسار الموحد - تتمحور فى خطاب عام معلن يعبر عن حسن النوايا وتمنى التوحد بل واستعجاله .. ولكن ماوراء هذا الخطاب من مناقشات تفصيلية تدور بين قياداته وبين الشباب الداعى للتوحد .. تنتهى الى طرح فكرة ان التجمع هو بيت اليسار وانه الحزب الذى يملك الادوات والامكانات المادية والمالية الأكبر وهو له شكل قانونى رسمى وبالتالى فما المناع من انضمام الجميع الى الحزب .. يقولون ذلك دونما ان يجهدوا انفسهم أو ان يلتفتوا الى أى شرط من شروط التوحد موضوعيا .. المهم أن يأتى الجميع الينا ... وهو جهد أقل مايمكن أن يطلق عليه أنه جهد غير جاد بما يوازى الآمال الحقيقية لدى الشباب اليسارى فى رؤية ( يسار موحد ) قد بزغت شمسه فى يوم ما ..

 خامسا وليس آخرا:  اننا حتى الان لم نضع أحتمالية أن نجرب لبعض الوقت الأستفادة من تنوع وتعدد تنظيمات اليسار بأفكارها ومدارسها المتنوعة فى اطار وحدة للعمل على أرض الواقع النضالى تتنامى فيها امكانات وحدة حقيقية - ونهائية لا انقسامات بعدها - فى المستقبل تتفاعل فيها الأختبارات الحقيقية الجادة لنوايانا حول الوحدة وتتفاعل فيها النقاشات المبدعة حول ادوات النضال فى الواقع وتتضح لنا من خلال استجابات هذا الواقع - لاغيرها - الأفكار الصحيحة حول نضالاتنا والتى تستطيع ان تصمد امام تحديات هذا الواقع وتخلق فيما بين الكيانات اليسارية المختلفة  أشكال تنسيقية تخلق تفاهمات على الارض وافكار ابداعية مشتركة تتولد من النضال المشترك بدأ بالمعارك الجماهيرية ذات الطبيعة الطبقية المشتركة وتصاعدا بالمعارك السياسية وارتقاءا بسلسلة من التنظيم المشترك لتلك النضالات وصولا الى أرادة مشتركة على الارض ... أرض الواقع لا أرض الوثائق والأعلانات والفرقعات الأعلامية وما قد يكلفنا أثمان باهظة لاندفاع نحو الخطأ التقليدى والوقوع فى فخ الوحدة ثم الانقسام ... ثم التشتت ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق